share 758 بازدید
التفسير

محمد باقر الحكيم
1 - التفسير معناه اللغوي

التفسير في اللغة : البيان والكشف(1). وجاءت الكلمة في القرآن الكريم بهذا المعنى قال تعالى : (ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا)(2). فتفسير الكلام - أي كلام - معناه الكشف عن مدلوله وبيان المعنى الذي يشير إليه اللفظ.
وعلى هذا الأساس يمكن أن نطرح السؤال التالي : هل أن بيان المعنى الظاهر من اللفظ الذي يتبادر منه يعتبر تفسيراً بحيث يصدق عليه لفظ التفسير بمعناه اللغوي أولاً؟ فهناك اتجاه يقول : إن الكشف والبيان الذي أخذناه في معنى التفسير يستبطن افتراض وجود درجة من الخفاء والغموض في المعنى ليكشف ويزال الغموض عنه بعملية التفسير فلا يصدق التفسير حينئذ إلا في حالة الغموض والخفاء. فمن يسمع كلاماً له معنى ظاهر يتبادر من ذلك الكلام فيعلن عن ذلك المعنى لا يكون مفسراً للكلام. لأنه لم يكشف عن شيء خفي. وإنما يصدق التفسير على الجهد الذي يبذله الشخص في سبيل اكتشاف معنى الكلام المكتنف بشيء من الغموض والخفاء. وبتعبير آخر أن من أظهر معنى اللفظ يكون قد فسره وأما حيث يكون المعنى ظاهراً ومتبادراً بطبيعته فلا إظهار ولا تفسير.
وسيراً من هذا الاتجاه لا يكون من التفسير إلا إظهار أحد محتملات اللفظ واثبات أنه هو المعنى المراد أو إظهار المعنى الخفي غير المتبادر وإثبات أنه هو المعنى المراد بدلاً عن المعنى الظاهر المتبادر. وأما ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ فلا يكون تفسيراً.
وهذا الاتجاه يمثل الرأي السائد لدى الأصوليين. ولكن الصحيح هو أن ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيراً أيضاً وإظهاراً لأمر خفي كما أنه في بعض الحالات الأخرى قد لا يكون تفسيراً لأنه يفقد عنصر الخفاء والغموض فلا يكون إظهاراً لأمر خفي أو إزالة لغموض.
ومن أجل التعرف على موارد الظهور التي ينطبق عليها (التفسير) والموارد التي ينطبق عليها معنى (التفسير) نقسم الظهور إلى قسمين :
أحدهما - الظهور البسيط: وهو الظهور الواحد المستقل المنفصل عن سائر الظواهر الأخرى.
والآخر - الظهور المعقد : وهو الظهور المتكون نتيجة لمجموعة من الظواهر المتفاعلة.
ولأجل توضيح هذا التقسيم نضر ب مثالاً لذلك بأن يقول شخص لولده: إذهب إلى البحر في كل يوم. و يقول له: اذهب إلى البحر في كل يوم واستمع إلى كلامه. فالنسبة إلى القول الأول نعتبر الظهور ظهوراً بسيطاً إذ لا يوجد في الكلام إلا صورة واحة تتبادر إلى الذهن وهي: صورة بحر من الماء يطلب الأب من ولده أن يذهب إليه في كل يوم. وأما بالنسبة إلى القول الثاني فالظهور معقد لأنه مزدوج فهناك نفس الظهور السابق، إذ يتبادر إلى الذهن من كلمة البحر: البحر من الماء يذهب إليه الولد في كل يوم. ويقابله ظهور آخر وهو ظهور الاستماع إلى كلام البحر. إذ يتبادر إلى الذهن من ذلك : أن البحر ليس بحراً من ماء بل هو بحر من العلم، لأن بحر الماء لا يستمع إلى كلامه لأنه ليس له كلام وإنما يستمع إلى صوت أمواجه.
وهكذا نواجه في هذه الحالة ظهورين بسيطين متعارضين. وحين نلاحظ أن ندرس نتيجة التفاعل بين ذينك الظهورين وما ينجم عنهما من ظهور بعد تصفية التناقضات الداخلية بينهما. وهذا الظهور الناجم عن ذلك نسميه: بالظهور المعقد أو المركب.
وإذا ميزنا بين الظهور البسيط والظهور المعقد أمكننا أن نعرف أن إبراز الظهور المعقد وتحديد معنى الكلام على أساسه يعتبر تفسيراً. لأن تعقيده وتركيبه يجعل فيه درجة من الخفاء والغموض جديدة بالكشف والإبانة فيصدق عليه اسم: (التفسير) وأما الظهور البسيط ففي الغالب لا يعتبر إبراز معنى الكلام على أساسه تفسيراً لأن المعنى ظاهر لطبيعته فلا يحتاج إلى إظهار.
والنتيجة أن في صدر التفسير على بيان المعنى في موارد الظهور اتجاهين:
أحدهما القائل: بعدم صدقه مطلقاً سواء كان الظهور بسيطاً أم معقداً.
والآخر - وهو الاتجاه الصحيح - القائل : بأن التفسير ليصدق على بيان المعنى في موارد الظهور المعقد دون بعض موارد الظهور البسيط.

2 - التفسير معنى إضافي أو موضوعي؟

وعلى ضوء الاتجاه الصحيح نعرف: أن التفسير معنى (اضافي) لأن التفسير بيان المعنى وإيضاحه في مورد ظهور اللفظ. والمعنى الواحد قد يكون بحاجة إلى البيان والكشف لإضافته إلى شخص دون شخص آخر فيكون بيانه بالإضافة إلى من يحتاج البيان تفسيراً دون الشخص الآخر.
و أما إذا أخذنا بالاتجاه الآخر الذي يرى: أن التفسير لا يشمل موارد حمل اللفظ على معناه الظاهر مهما كان الظهور معقداً، وأن التقسيم مختص بحمل اللفظ على ما لا يكون ظاهراً من اللفظ فبالامكان أن نتصور للتفسير معنى (موضوعياً) لا يختلف باختلاف الأفراد لأننا نلاحظ عندئذ اللغة نفسها فإن كان المعنى الذي يذكر للفظ هو المعنى الذي يقتضيه الاستعمال اللغوي بطبيعته فلا يكون ذلك تفسيراً حتى إذا كان محاطاً بشيء من الخفاء والغموض بالنسبة إلى بعض الأشخاص. وإن كان المعنى معنى آخر لا يقتضيه الاستعمال اللغوي بطبيعته وإنما عيناه بدليل خارجي فهو (التفسير).

3 - تفسير اللفظ وتفسير المعنى

والتفسير على قسمين باعتبار الشيء المفسر تفسير اللفظ وتفسير المعنى. وتفسير اللفظ عبارة عن «بيان معناه لغة». وأما تفسير المعنى فهو تحديد مصداقه الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك المعنى.
فحين نسمع شخصاً يقول: إن دولاً تملك أسلحة ضخمة. تارة نتساءل: ما هو معنى الأسلحة ونجيب عن هذا السؤال: إن الأسلحة هي الأشياء التي يستعين بها صاحبها في قهر عدوه. وأخرى نتساءل: ما هي نوعية السلاح الذي تملكه تلك الدول؟ ونجيب: أن سلاحها القنابل الذرية.
ففي المرة الأولى فسرنا اللفظ إذ ذكرنا معناه لغة. وفي المرة الثانية فسرنا المعنى إذ حددنا المصداق الذي ينطبق عليه معنى الجملة ويشير إليه فنسمي المرحلة الأولى بمرحلة (تفسير اللفظ) أو التفسير اللغوي، وهي مرحلة تحديد المفاهيم. وتسمى المرحلة الثانية: مرحلة (تفسير المعنى) وهي مرحلة تجسيد تلك المفاهيم في صور معينة محددة.
وأمثلة ذلك من القرآن الكريم كثيرة فنحن نلاحظ في القران أن اللّه سبحانه يوصف بالحياة والعلم والقدرة والسمع والبصر والكلام، ونواجه بالنسبة إلى هذه الكلمات بحثين:
أحدهما: البحث عن مفاهيم هذه الكلمات من الناحية اللغوية، والآخر: البحث عن تعيين مصداق تلك المفاهيم بالنسبة إلى اللّه تعالى، فكيف يسمع سبحانه؟ وهل يسمع بجارحة أو لا وكيف يعلم؟ وهل يعلم بصورة زائدة.
والأول: يمثل التفسير اللفظي للآية أو تفسير اللفظ والثاني يمثل التفسير المعنوي أو تفسير المعنى.
ومن أمثلة ذلك أيضاً قوله تعالى: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) (3) وقوله: (وأنزلنا من السماء ماء بقدر فأسكناه في الأرض) (4) فنحن نجد هذه الآيات تتحدث عن أشياء قد أنزلت من قبيل: الحديد والماء، وتفسير اللفظ يعني بصدد هذه الآيات أن نشرح معنى (النزول) لغة ونحدد مفهوم كلمة انزلنا الواردة في الآيات الثلاث ونعرف أنها تستبطن معنى الهبوط من جهة عالية مرتفعة وتفسير المعنى هو أن ندرس حقيقة هذا الانزال ونوع تلك (الجهة العالية) التي هبط منها الحديد والماء، وهل هي جهة مادية أو معنوية.

أهمية التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى

والتفسير بين تفسير اللفظ على صعيد المفاهيم، وتفسير المعنى بتجسده في صورة محددة على صعيد المصاديق... يعتبر نقطة جوهرية جداً في تفسير القرآن الكريم. وأداة لحل التناقض الظاهري الذي يبدو بين حقيقتين قرآنيتين وهما:
الحقيقة الأولى: ان القران كتاب هداية. وقد وصف نفسه بأنه (هدى للناس) (5) و (نور مبين) (6) و (تبياناً لكل شيء) (7) وهذه الحقيقة تفرض أن يجيء القرآن ميسر الفهم وأن يتاح للإنسان استخراح معانيه منه، إذ لا يحتاج للقرآن أن يحقق أهدافه ويؤدي رسالته لو لم يكن مفهوماً من قبل الناس.
والحقيقة الأخرى: أن كثيراً من المواضيع التي يستعرض القران أو يشير إليها لا يمكن فهمها بسهولة بل قد تستعصي على الذهن البشري ويتيه في مجال التفكير فيها لدقتها وابتعادها عن مجالات الحس والحياة الاعتيادية التي يعيشها الإنسان. وذلك نظير ما يتعلق من القرآن باللوح، والقلم، والعرش، والموازين، والملك، والشيطان وإنزال الحديد، ورجوع البشرية إلى اللّه، والحزائن، وملكوت السماء والأرض.. وما إلى ذلك من مواضيع.
إذن فحقيقة أهداف القرآن الكريم ورسالته تفرض أن يكون ميسر الفهم وواقع بعض مواضيعه يستعصي على الفهم ويتيه فيها الذهن البشري.
وحل التناقض الظاهري بين هاتين الحقيقتين إنما يكون بالتمييز بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى، لأن الحقيقة الأولى وحقيقة أهداف القرآن ورسالته إنما تفرض أن يكون القرآن ميسر الفهم بوصفه كلاماً دالاً على معنى أي بحسب تفسير اللفظ. وهو بهذا الوصف ميسر الفهم سهل على الناس استخراج معانيه. وإنما الصعوبة في تحديد الصور الواقعية لمعانيه ومفاهيمه.
فكل الآيات التي استعرضت تلك المواضيع التي أشرنا إليها في الحقيقة الثانية تعتبر مفهومة من ناحية لغوية، ولا صعوبة في التفسير اللفظي لها، وإنما الصعوبة تكمن في تفسير معنى اللفظ لا تفسير اللفظ نفسه، لأن تلك الموضوعات ترتبط بعوالم أرقى من عالم الحس الذي يعيشه الإنسان. فيكون من الطبيعي أن يواجه الإنسان صعوبات كبيرة إذا حاول تحديد المعنى في مصداق معين، وتجسيد المفهوم في ذهن ضمن واقع خاص.
وقد يتساءل هنا عن الضرورة التي دعت القرآن الكريم إلى أن يتعرض لمثل هذه المعاني التي يستعصي تفسيرها على الذهن البشري، فيخلق بذلك صعوبات ومشاكل هو في غنى عنها.
ولكن الواقع أن القرآن الكريم لم يكن بإمكانه أن يتفادى هذه الصعوبات والمشاكل، لأن القرآن بوصفه كتاب دين يستهدف بصورة رئيسية ربط البشرية بعالم الغيب، وتنمية غريزة الإيمان بالغيب فيها. ولا يتحقق ذلك إلا عن طريق تلك المواضيع التي تنبه الإنسان إلى صلته بعالم أكبر من العالم المنظور، وإن كان غير قادر على الإحاطة بجميع أسراره وخصوصياته.

التفسير بوصفه علماً:

وأما التفسير بوصفه علماً فهو علم يبحث فيه عن القرآن الكريم بوصفه كلاماً للّه تعالى (8). وتوضيح ذلك: إن القرآن الكريم له عدة اعتبارات: فهو تارة يلحظ بوصفه حروفاً كتابية ترسم على الورق وأخرى يلحظ بوصفه أصواتاً نقرأها ونرددها بلساننا وثالثة يلحظ باعتباره كلاماً للّه تعالى.
والقرآن الملحوظ بأي واحد من هذه الاعتبارات يقع موضوعاً لعلم يتكون من بحوث خاصة به. فالقرآن من حيث إنه حروف تكتب موضوع لعلم الرسم القرآني الذي يشرح قواعد كتابة النص القرآني. والقرآن من حيث أنه يقرأ موضوع لعلم القراءة وعلم التجويد والقرآن من حيث أنه كلام اللّه يقع موضوعاً لعلم التفسير. فعلم التفسير يشتمل على جميع البحوث المتعلقة بالقرآن بوصفه كلام اللّه. ولا يدخل في نطاقه البحث في طريقة كتابة الحرف، أو طريقة النطق بصوته، لأن الكتابة والنطق ليسا من صفات نص القرآن بوصفه كلاماً للّه. إذ ليس كونه كلاماً للّه دخلاً في كيفية كتابته أو قراءته.
وإنما يدخل في علم التفسير على ضوء ما ذكرناه من تعرضه للبحوث الآتية:
أولاً: البحث عن مدلول كل لفظ أو جملة في القرآن الكريم، لأن كون هذا المعنى أو ذاك مدلولاً للفظ القرآني من صفات القرآن بوصفه كلاماً للّه وليس من صفات الحروف أو أصواتها بما هي حروف أو أصوات.
ثانياً: البحث عن إعجاز القرآن والكشف عن مناحي الإعجاز المختلفة فيه فإن الإعجاز من أوصاف القرآن باعتباره كلاماً دالاً على المراد.
ثالثاً: البحث عن أسباب النزول، لأن الآية حين ندرس سبب نزولها نلاحظها بما هي كلام، أي بما هي لفظ مفيد دال على معنى لأن ما لا يكون كلاماً ولا يدل على معنى، لا يرتبط بحادثة معينة لتكون سبباً لنزولها الآية.
رابعاً: البحث عن الناسخ والمنسوخ والخاص والعام والمقيد والمطلق. فإن كل ذلك يتناول النص القرآني بوصفه كلاماً دالاً على معنى.
خامساً: البحث عن أثر القرآن في التاريخ ودوره في بناء الإنسانية وهدايتها، فإن أثر القرآن ودوره مردهما إلى فعالية القرآن بوصفه كلاماً للّه لا بوصفه مجرد حروف تكتب أو صوت أو أصوات تقرأ. إلى غير ذلك من البحوث التي ترتبط بالقرآن باعتباره كلاماً للّه تعالى.
ومن خلال تعريف علم التفسير نحدد موضوعه أيضاً وهو (القرآن) من حيث كونه كلاماً للّه تعالى.
وعلى هذا الضوء نعرف أن إطلاق اسم علم (الناسخ والمنسوخ) أو علم (اعجاز القرآن): على البحوث المتعلقة بهذه المواضيع، يعني عدم إمكان اندراجها جميعاً في نطاق علم واحد باسم علم: (التفسير) فهي في الحقيقة جوانب من هذا العلم لوحظ في كل جانب منها تحقيق هدف خاص يتعلق بالبحوث في ناحية خاصة من كلام اللّه ففي علم (اعجاز القرآن) كلام اللّه في القرآن مقارناً بالنتاج البشري أو بالإمكانات وهو معنى الإعجاز. وفي علم (أسباب النزول) يدرس كلام اللّه في القرآن من حيث ارتباطه بالأحداث والوقائع التي لابست نزوله. وهكذا الأمر في سائر الجوانب الأخرى.

التأويل

والتأويل كلمة أخرى ظهرت إلى صف كلمة: (التفسير) في بحوث القرآن عند المفسرين. واعتبرت - من قبلهم - متفقة بصورة جوهرية مع كلمة التفسير في المعنى. فالكلمتان معاً تدلان على بيان معنى اللفظ والكشف عنه قال صاحب القاموس: (أول الكلام تأويلاً: دبره وقدره وفسره) (9).
والمفسرون الذين كادوا أن يتفقوا على التوافق بين الكلمتين بشكل عام - اختلفوا في تحديد مدى التطابق بين الكلمتين.

ونحن هنا نذكر بعض الاتجاهات والمذاهب في ذلك:

1 - الاتجاه العام لدى قدماء المفسرين الذي يميل إلى القول بالترادف بينهما. فكل تفسير تأويل. والعكس صحيح أيضاً وعلى هذا فالنسبة بينهما هي التساوي. ولعل منه قول مجاهد: إن العلماء يعلمون تأويله وقول ابن جرير الطبري في تفسيره (القول في تأويل قوله كذا.... واختلف أهل التأويل في الآية...).
2 - الاتجاه العام لدى من تأخر عنهم من المفسرين الذي يميل إلى القول بأن التفسير يخالف التأويل في بعض الحدود: أما في طبيعة المجال المفسر والمؤول. أو في نوع الحكم الذي يصدره المفسر والمؤول وفي طبيعة الدليل الذي يعتمد عليه التفسير والتأويل. فهنا مذاهب نذكر منها ثلاثة:
أ - التمييز بين التفسير والتأويل في طبيعة المجال المفسر ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن التفسير يخالف التأويل بالعموم والخصوص. فالتأويل يصدق بالنسبة إلى كل كلام له معنى ظاهر فيحمل على غير ذلك المعنى فيكون هذا الحمل تأويلاً. والتفسير أعم منه لأنه بيان مدلول اللفظ مطلقاً أعم من أن يكون هذا المدلول على خلاف المعنى الظاهر أولاً.
ب - التمييز بين التفسير والتأويل في نوع الحكم ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن التفسير والتأويل متباينان لأن التفسير هو: القطع بأن مراد اللّه كذا. والتأويل: ترجيح أحد المحتملات بدون قطع وهذا يعني أن المفسر أحكامه قطعية والمؤول أحكامه ترجيحية.
ج - التمييز بينهما في طبيعة الدليل: ويقوم هذا المذهب على أساس القول بأن التفسير هو: بيان مدلول اللفظ اعتماداً على دليل شرعي. والتأويل هو بيان اللفظ اعتماداً على دليل عقلي.

موقفنا من هذه الاتجاهات:

والبحث في تعيين مدلول كلمة التأويل والمقارنة بينها وبين كلمة التفسير يتسع في الحقيقة بقبول كل هذه الوجوه حين يكون بحثاً اصطلاحياً يستهدف تحديد معنى مصطلحي لكلمة التأويل في علم التفسير. لأن كل تلك المعاني داخلة في نطاق حاجة المفسر فيمكنه أن يصطلح على التعبير عن أي واحد منها بكلمة التأويل لكي يشير إلى مجال خاص أو درجة معينة من الدليل. ولا حرج عليه في ذلك. ولكن الخطر يكمن في اتخاذ المعنى المصطلحي معنى وحيد اللفظ، وفهم كلمة (التأويل) على أساسه إذا جاءت في (النص الشرعي).
ونحن إذا لاحظنا كلمة التأويل وموارد استعمالاتها في القرآن نجد لها معنى آخر لا يتفق مع ذلك المعنى الاصطلاحي الذي يجعلها بمعنى التفسير ولا يميزها عنه إلا في الحدود والتفصيلات فلكي نفهم كلمة التأويل يجب أن نتناول إضافة إلى معناها الاصطلاحي معناها الذي جاءت به في القرآن الكريم.
وقد جاءت كلمة التأويل في سبع سور من القرآن الكريم إحداها سورة آل عمران ففيها قوله تعالى: (هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله) (10) والأخرى سورة النساء ففيها قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا اللّه وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى اللّه والرسول إن كنتم تؤمنون باللّه واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً) (11) والثالثة سورة الأعراف ففيها قوله تعالى: (ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلى تأويله يوم يأتي يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق) (12) والرابعة سورة يونس ففيها قوله (بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله) (13) والخامسة سورة يوسف جاء فيها قوله (وكذلك يجتبيك ربك ويعلمك من تأويل الأحاديث) (14) والسادسة والسابعة سورتا الإسراء والكهف إذ جاء فيها كلمة التأويل على هذا المنوال أيضاً.
وبدراسة هذه الآيات نعرف أن كلمة التأويل لم ترد فيها بمعنى التفسير وبيان مدلول اللفظ ولا يبدو إمكانية ورودها بهذا المعنى إلا في الآية الأولى فقط لأن التأويل في الآية الأولى أضيف إلى الآيات المتشابهة ولهذا ذهب كثير من مفسري الآية إلى القول بأن تأويل الآية المتشابهة هو تفسيرها وبيان مدلولها وتدل الآية عندئذ على عدم جواز تفسير الآية المتشابهة وبالتالي على أن قسماً من القرآن يستعصي على الفهم ولا يعلمه إلا اللّه والراسخون في العلم وأما ما يتاح للأنسان الاعتيادي فهمه وتفسيره ومعرفة معناه من القران فهو الآيات المحكمة منه فقط. وهذا الموقف الذي وقفه أولئك المفسرون من هذه الآية وحملهم لكلمة التأويل على ضرب من التفسير نتيجة لانسياقهم مع المعنى الاصطلاحي لكلمة التأويل ونحن بإزاء موقف من هذا القبيل يجب أن نعرف قبل كل شيء أن المعنى الاصطلاحي هل كان موجوداً في عصر القرآن، وهل جاءت كلمة التأويل بهذا المعنى وقتئذ ولا يكفي مجرد انسياق المعنى الاصطلاحي مع سياق الآية لنحمل كلمة التأويل فيها عليه.
وملاحظة ما عدا الأولى من الآيات التي جاءت فيها كلمة التأويل تدل على أنها كانت تستعمل في القران الكريم بمعنى آخر غير التفسير ولا نملك دليلاً على أنها استعملت بمعنى التفسير في مورد ما من القرآن.
والمعنى الذي يناسب تلك الآيات هو أن يكون المراد بتأويل الشيء ما يؤول إليه ولهذا أضيف التأويل إلى الراد إلى اللّه والرسول تارة، وإلى الكتاب أخرى، وإلى الرؤيا وإلى الوزن بالقسطاس المستقيم، وهذا نفسه هو المراد في أكبر الظن من كلمة التأويل في الآية الأولى التي أضيف فيها التأويل إلى الآيات المتشابهة في قوله تعالى: (فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء تأويله) فتأويل الآيات المتشابهة ليس بمعنى بيان مدلولها وتفسير معانيها اللغوية بل هو ما تؤول إليه تلك المعاني لأن كل معنى عام حين يريد العقل أن يحدده ويجسده، ويصوره في صورة معينة فهذه الصورة المعينة هي تأويل ذلك المعنى العام.
وعلى هذا الأساس يكون معنى التأويل في الآية الكريمة هو ما أطلقنا عليه اسم تفسير المعنى لأن الذين في قلوبهم زيغ كانوا يحاولون أن يحددوا صورة معينة لمفاهيم الآيات المتشابهة إثارة للفتنة لأن كثيراً من الآيات المتشابهة تتعلق معانيها بعوالم الغيب فتكون محاولة تحديد تلك المعاني وتجسيدها في صورة ذهنية خاصة عرضة للخطر وللفتنة ونستخلص من ذلك أمرين أحدهما أن التأويل جاء في القرآن بمعنى ما يؤول إليه الشيء لا بمعنى التفسير وقد استخدم بهذا المعنى للدلالة على تفسير المعنى لا تفسير اللفظ أي على تجسيد المعنى العام في صورة ذهنية معينة. والآخر أن اختصاص اللّه سبحانه والراسخين في العلم بالعلم بتأويل الآيات المتشابهة لا يعني أن الآيات المتشابهة ليس لها معنى مفهوم وأن اللّه وحده الذي يعلم بمدلول اللفظ وتفسيره بل يعني أن اللّه وحده الذي يعلم بالواقع الذي تشير إليه تلك المعاني ويستوعب حدوده وكنهه. وأما معنى اللفظ في الآية المتشابهة فهو مفهوم بدليل أن القرآن يتحدث عن اتباع مرضى القلوب للآية المتشابهة فلو لم يكن لها معنى مفهوم لما صدق لفظ (الاتباع) هنا فما دامت الآية المتشابهة يمكن أن تتبع فمن الطبيعي أن يكون لها معنى مفهوم وهي جزء من القرآن الذي أنزل لهداية الناس وتبيان كل شيء.
والواقع أن عدم التمييز بين تفسير اللفظ وتفسير معنى اللفظ هو الذي أدى إلى الاعتقاد بأن التأويل المخصوص علمه باللّه هو تفسير اللفظ وبالتالي إلى القول بأن قسماً من الآيات ليس لها معنى مفهوم لأن تأويلها مخصوص باللّه. ونحن إذا ميزنا بين تفسير اللفظ وتفسير المعنى نستطيع أن نعرف أن المخصوص باللّه هو تأويل الآيات المتشابهة بمعنى تفسير معانيها لا تفسير ألفاظها.
وهكذا يمكننا في هذا الضوء أن نضيف إلى المعاني الاصطلاحية التي مرت بكلمة التأويل معنى آخر هو : تفسير معنى اللفظ والبحث عن استيعاب ما يؤول إليه المفهوم العام ويتجسد به من صورة.

پی نوشت ها:

(1) لسان العرب : مادة (فسر).
(2) سورة الفرقان، آية 33.
(3) سورة الحديد، آية: 27 .
(4) سورة المؤمنون، آية: 18 .
(5) سورة البقرة، آية: 185.
(6) سورة المائدة، آية: 15 .
(7) سورة النحل، آية: 89 .
(8) قارن هذا التعريف بما ذكره الزركشي في البرهان وما نقله الذهبي عن بعضهم في التفسير والمفسرون وما ذكره الزرقاني في مناهل العرافان.
(9) القاموس: مادة (أول).
(10) سورة آل عمران، آية: 7 .
(11) سورة النساء، آية: 59 .
(12) سورة الأعراف، آية : 52.
(13) سورة يونس، آية : 39.
(14) سورة يوسف، آية : 6.

مقالات مشابه

فلسفه تفسیر قرآن کریم

نام نشریهقرآن و علم

نام نویسندهمحمدعلی رضایی اصفهانی, محمد امینی تهرانی

چيستي تفسير از نگاه قرآن

نام نشریهقرآن شناخت

نام نویسندهمجید شمس کلاهی

پیش نیازهای علم تفسیر بر پایه مقدمه تفاسیر قرآن

نام نشریهپژوهش های قرآن و حدیث

نام نویسندهنهله غروی نائینی, حمید ایماندار

گفتگو: راه بی کناره

نام نشریهفصلنامه حسنا

نام نویسندهمحمدباقر تحریری

لمحات من علوم التفسیر

نام نشریهالمجمع الفقهی الاسلامی

نام نویسندهطلال عمر بافقیه

غزالی و فرآیند تفسیر قرآن

نام نشریهمطالعات عرفانی

نام نویسندهمحسن قاسم‌پور